ماذا تريد أن تعرف؟
عندما تمّ الإعلان عن زيارة قداسة البابا بتاريخ 5-8 أذار للعراق، كنا كالحالمين، حينئذ امتلأت افواهنا ضحكاً و قلوبنا رجاء. وتحقيق هذا الحلم كان يبيّن صعب إن لم نقل مستحيل لعدة اسباب : منها ظروف امنية لبلدنا وعدم استقراره والهجمات المسلحّة العشوائية، كان هناك معركة ساخنة في مدينة الناصرية طريق أور، كذلك قبل يوميين من الزيارة كان هناك قصف 10 صواريخ على قاعدة عين ألاسد الامريكية، كذلك قصف قاعدة أمريكية قرب مطار أربيل ب 17 صاروخ، وايضا الموجة الجديدة لجائحة الكورونا. ومع كل التعليقات في البلد : هل قداسة البابا مجنون ياتي الى العراق؟ ولكن البابا فرنسيس الآتي باسم الرب اظهر لنا بأنه اب حنون ولم يشأ بان يخذل الشعب العراقي للمرة الثانية واصّر على المجيئ رغم كل العراقيل والتحديات والعنف والخوف الكبير... وهكذا ادخل الفرحة الى قلوب العراقيين العطشانين للفرح وخاصة للفرح معاً مسلمين ومسيحيين وكل الأطياف الشعب العراقي.
بدأت الكنيسة تتحضّر لهذه الزيارة، حيث دعى سيادة البطريرك مار لويس ساكو كل المؤمنين بتلاوة صلاة خاصة يومياً مؤلفة من قبلهِ. ودعا رؤساء الطوائف أو الممثلين عنهم للقاء مع بعض، ألتقوا تقريباَ مرتين، كذلك مع الحكومة في بغداد، وايضاَ مع حكومة أقليم كردستان. وتشكّلت أيضاً لجان من علمانيين واكليرس للتحضير معاً.
و بدأت الرهبانيات الموجودة في سهل نينوى من ضمنهم نحن بالتحضيرات لتوعية و تحضير المؤمنين بأهمية الزيارة و بالتعاون مع كهنة الرعايا المختلفة حيث تم تنظيم لقاء للشباب في قرةقوش و يتخلله الصلوات و شهادات الحياة و الأهازيج و بحضور المطارين و الأكليروس وايضا احتفلنا مع شباب و الرعية في كرمليس و بعد ذلك في بعشيقة. وهذا ما عزز الأواصر بين الرعايا المختلفة و عملنا خبرة العمل معاً و التي ليست سهلة دائماً .و لكن قدرنا ان نتجاوز الصعوبات للإنجاح اللقاءات.
الاماكن التي تم أختيارها لزيارته تعبر بنفسها عن المآسي التي عاشها العراق وهي:
* كنيسة سيدة النجاة، كنيسة الشهداء للسريان الكاثوليك حيث قُتل 48 شخص من ضمنهم أثنان من الاباء، ما عدا الجرحى نتيجة تفجير الكنيسة في عام 2010 من قبل الارهابين.
* مدينة النجف المقدسة، الموجود فيها المرجع الديني الاعلى للشيعة أية الله علي السيستاني.
* مدينة أور مسقط رأس أبو المؤمنين "أبراهيم" وهي الشخصية المشتركة بين الديانات التوحيدية الثلاثة.
* كاتدرائية مار يوسف الذي فيها احتفل البابا بالذبيحة الالهيّة بالطقس الشرقي الكلداني، بحضور اخواتنا رجاء ورجاء نور.
* مدينة الموصل خاصة حوش الكنيسة المدمرّة اليوم كليّاً، كانت تتواجد فيها جميع الطوائف. كانت الأخوّة متواجدة في هذا المكان منذ أكثر من ستين سنة.
* بلدة قرقوش من ضمن عشرات القرى التي تم تدميرها على يد داعش، وهي تمثل أكبر تجمع وحضور للكنيسة السريانية الكاثوليكية.
* مدينة أربيل، عاصمة كردستان العراق، والتي فتحت أبوابها لمئات الالاف من المسيحيين واليزيديين والمسلمين الفارين من تنظيم داعش.
باشرت الحكومة بتبليط الشوارع وتزيينها، مع صور البابا وكلماته "أنتم جميعاً إخوة"وبأعلام العراق والفاتيكان فقط بكل مكان يذهب اليه البابا...ألخ وهو أول بابا يصرّ لقدوم ارض العراق، بالرغم من عمره ووضعه الصحي. أتى بهذه الكلمات "اوافيكم حاجا تائبا , لكي التمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب ... حاجا يُشوقني السلام لأكرر "انتم جميعا اخوة ". تدفعني الرغبة في ان نصلي معا ونسير معا ".
كان في البلد حظر تجوال كلّي لم نشهده من قبل، للأيام الجمعة السبت والاحد, والشوارع مغلقة مع انتشار قوى الامن بكثافة غير طبيعية، وعلى المدعوين المشاركين في الفعاليات المختلفة حمل تصاريح امنية مع الدعوة التي تتطلب التدقيق،الكثير كان يرغب بالحضور ولكن التسجيل محدود.
كل تنقلاتنا للمشاركة في أي مكان، كان يتطلب انتظار ساعات طويلة للوصول، وتم النقل عن طريق باصات متوفرة من قبل الحكومة والكنيسة مجاناً، وهذه نعمة للجميع.
كان للبابا استقبال مهيب يوم وصوله مطار بغداد 5 اذار, من قبل مسؤولي الدولة ومسؤولي الكنائس، وكان هنالك الكثير من المسلمين في الاستقبال ايضا، وفرق عديدة فلكلورية تراثية غنائية راقصة منوعة تمثل كل مكونات شعبنا.على جانب طريق المطار اصطف الكثير من الناس للترحيب بقدومه، ومن ضمنهم أختنا رجاء.بعد الظهر التقى في كنيسة سيدة النجاة مع المكرسين والمكرسات ومن ضمنهم أخواتنا ألس فداء ورجاء نور(عندما رأهم البابا فتح عينيهِ وأبتسمى لهم)، ومعلمي التعليم المسيحي وجماعة بيت عنيا التي تهتم بالمهمشين والفقراء وبعض الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.
اللقاءالمغلق بين قداسة البابا وأية الله علي السيستاني الذي لا يستقبل أحد كان لها صدى كبير في الشارع العراقي والإعلام وخاصة الشيعة. وقال شخصية إسلامية من الدولة، عمار الحكيم، إنّ اللقاء هو صورة ناصعة عن أهمية السلام والتسامح في حياة الإنسان.
حظيت مدينة ذي قار (حاليا اور) بالعناية والاهتمام من ناحية النظافة وتبليط الشوارع وتوصيل الكهرباء لها والتشجير والتزيين. فقد تم تسليط الضوء على هذه البقعة من الارض المخفية المنسية المهملة وغير المُقدرة قيمتها حضاريا وتاريخيا ودينيا، فكانت مفاجأة للعراقيين بصورة عامة وخاصة المسلمين , وموضع تساؤل عن كيفية الاستفادة مستقبلا من أهمية هذه المدينة عالميا, لا بل اقترح مسؤول جعل المكان الذي تم فيه اللقاء مكانا للحج والصلاة.
صلّى البابا مستذكرا مأساة اليزيديين قبل عدة سنوات ودعا الى نبذ العنف والتطرف والحقد, طالبا السلام لكل الشرق الاوسط وخاصة سوريا المعذبة... وان يكون لنا الشجاعة لنكمل رحلة السلام لأبينا ابراهيم .
على أثر هذه اللقاءات، أعلن رئيس الوزراء بأن يوم 6 آذار سيبقى يوماً وطنياً للتسامح والتعايش في العراق .و دعى أيضاً جميع الأطراف لحوار وطني للمصالحة و من ضمنهم المتظاهرين و نأمل بأن يتجاوبون كافة الأحزاب و الأطياف لأنجاحه و لخير البلد باسره.
يوم الأحد، بالموصل، الأجواء كانت حذرة ورهيبة من كثرة رجال الأمن والجيش والشرطة بالشوارع فقط، حتّى نحن لم نقدر ان نعبر السيطرات إلاّ أن جاء رتل بقيادة عميد عسكري واخذنا مع موكب المطارين.جذبنا بكل شوارع الموصل صمت رهيب، هذا الصمت المتعطش للاصغاء لكلمات الحياة التي حملها البابا فرنسيس لكل انسان وبان الامل ما زال ممكنا في المصالحة وفي حياة جديدة.
الموصل كانت مزينة بصور لبابا فرنسيس مع اعلام فاتيكان وآيات من الكتاب المقدس: "ما أجمل اقدام المبشرين بالسلام. من اراد ان يكون كبيرا ليكن خادماً ". كان مؤثراً جداً بهذه الجهة المنكوبة من المدينة وكلها انقاض من جراء ما عاشت مع داعش و كأنّها تدعو المسيح من خلال البابا بأن يأتي ليعيد الحياة إليها وينعش السلام فيها لتبنى من جديد وتكون علامة أمل ورجاء للجميع. وهذا ما أكّد لنا ضرورة رجوعنا الى الموصل ليستعملنا الرب لصنع سلامه، وهو من عمق دعوتنا ونشكر الرب عل موافقة الأخوّة العامة لعيش خبرة لمدة سنة في الموصل في الساحل الايسر قريب من كنيسة البشارة.
كنا خمسة أخوات ( اليشواع، رائدة ، نجيبة ، نادين ماري وسعاد ) وراهبتين فقط من الرهبنة الكلدانية المحلية. وما أثر بنا هو: اول من استقبله في مكان الاحتفال كانوا أطفال الروضة والابتدائية كلهم مسلمين وأيضاً جماعة من الشباب المسلمين من مدينة الموصل وهم متطوعون تحت اسم شباب مريم العذراء التطوعي و كانت بأيديهم اغصان الزيتون و الأعلام. هم بينوا أستعدادهم لتنظيف أخوتنا وتجهيزهِ مع الأب عمانؤيل (رائد)… وهذا دليل على التغيير بالعقلية من بعد كل الأحداث التي عاشوها أهل موصل في ظل حكم داعش.
فرحنا جداً لقربنا منه على مسافة متريين، ولما رأنا أبتسمه أبتسامة جميلة جداً وكأنه حقيقة وجوهنا مألوفة لديهِ .
في قرقوش كان ترحيب ساخن ومؤثر جداً ، اذ بدأ بشكر لله لهذه الفرصة ليكون بينهم ، والذي انتظرَ هذه اللحظة بفارغ الصبر ، ومن بين أقوالهَ ِ " أيها الأحباء هذا الوقت ليس فقط لترميم المباني، ولكن أولاً وقبل كل شيء لترميم الروابط بين الجماعات والعائلات ، الشباب والكبار في السن. وختم اللقاء بصلاة التبشير الملائكي .
ثلاثة من عندنا ذهبنا الى كرمليس التي هي قرية بجانب مدخل قرقوش، وبقينا في الشارع العام مع أهالي كرمليس لاستقبال قداستهِ عند مروره من بعد قرقوش، لكن تاثرنا جداً لسرعة مروره بالسيارة، وعدم استطاعة الناس أن تتبارك من مروره، وهذا كله بسبب التشديد الامني الكثيفوالوقت الضيّق.
من بعدها توجه الى بلدة عينكاوا في اربيل للغداء في السمنير العائد للبطريركية الكلدانية، الذي كان سابقاً في بغداد ومن بعد أحداث 2006 أنتقل الى عينكاوا.
طلب مدير السمنير الأب أفرام من أختنا ليّا للإشتراك في تحضير الغداء مع مجموعة، وكانت مستعدّة لهذه الخدمة، وهذه نعمة للأخوّة بمشاركتنا وحضورنا.
وكان هناك أستقبال كبير للبابا من الجماهير التي لم تستطيع الاشتراك بالقداس على الشوارع، كان يشبه ما نوصفه باوشعنا ليسوع في تاريخهِ أثناء دخولهِ أورشليم. ومن جهة أخرى كانت الجماهير الكردية بنفس القوّة والإستقبال على الشوارع الطويلة لطريق الملعب.
ضمن القداس الإلهي في الملعب قام البابا برتبة تبخير تمثال لأمنا مريم العذراء كان قد نُقلَ من كرمليس، التي كانت قد قُطّع رأسها وأيضاً يديها من قِبل داعش. ولكن بعد عودة الكنيسة الى هذه البلدة، قام الأب بولص ثابت راعي الخورنة، بتلصيقها وتنظيفها وتحصينها في بيت زجاجي لتبقى ضمن التراث.
كان حضور كبير في الملعب، 10000 شخص، للمشاركة قادمين من جميع المحافظات والقرى التابعة لإقليم كردستان . كنا نحن سبعة أخوات، وفرحنا بمشاركة أختنا رمزية بقراءة الطلبة بطلب من الاسقف بشار راعي ايبارشية اربيل. ومن كلمات البابا المشجعة والتي تعطي دفع كبير لنا جميعاً : اليوم أستطيع أن أرى وألمس لمس اليد أن الكنيسة في العراق حيةّ، وأن المسيح حيّ ويعمل في شعبه المقدس والمؤمن ( السلام السلام السلام) " شكرا , شكرا العراق دائما سيبقى في قلبي . اطلب منكم جميعا ايها الاخوة والأخوات الاعزاء ان تعملوا معا متحدين من اجل مستقبل سلام وازدهار لا يُهمل احدا أؤكد لكم صلاتي من اجل هذا البلد الحبيب "...ونؤكد لك صلاتنا من اجلك يا بابا فرنسيس الحبيب.
رغم كل ما ذكرناه من الإيجابيات، لا ننكر كل الأصوات المضادة لهذه الزيارة و التي فسرتّها حسب مفاهيمها و مصالحها الشخصية ببقاء البلد في تمزق. صلوا معنا حتى نتوب معاً الى الله الواحد.
نشكر الله على زيارة البابا في بلدنا الحبيب، و على جو الاحتفالي والفرح الذي عشناه تلك الأيام.
نحن أخوات العراق تأثرنا من كل رسائلكم وصلواتكم التي كانت ترافقنا من كل أقطار العالم وكلنا امتنان وشكر لكل واحدة منكم باسمها ، نبقى متحدات بالصلاة .
أخوات العراق